بيت الحكمة: نموذج رائع لحوار الحضارات

كانت المقالة السابقة عن الهيومانزم (النزعة الإنسانية) بوصفها زبدة النهضة الأوربية ومحركها الأساس . وطوفنا حول السمات الرئيسة التي ميزت فترة النهضة. ومن ذلك، الاهتمام بالعلوم الكلاسيكية لليونانيين والرومان والكشوف العلمية والفلكية والجغرافية واكتشاف الطباعة وذيوع التعليم وحركة الإصلاح الديني (مارتن لوثر وجون كالفن) التي كانت بعضاً مهماً من نسيج النهضة وحقبة من حقبها.وعرضنا للفروق بين النهضة الايطالية والنهضة الانجليزية . كما عرضنا لنقد النهضة من بعض مؤرخي الثقافة الذين يرفضون المصطلح (النهضة) باعتباره ذا حمولة عاطفية ولما ينطوي عليه - في زعمهم - من تهميش وإقصاء لفترات التاريخ السابقة. ولهذا، يفضل بعضهم مصطلح أكثر حيادية مثل «الحداثة الأولى أو المبكرة» (Early Modernity)
? برزت ضمن المقال مسألة اللغة عبر التطرق لمجاهدات اللغات الأوربية الحديثة ومن بينها الانجليزية لانتزاع الاعتراف بقدرتها على ولوج مجالات كانت حكراً للاتينية كالفكر والعلوم واللاهوت. ومن ذلك دفوعات أحد رموز النهضة توماس اليوت(Thomas Elyot) صاحب أول كتاب في التعليم في انجلترا باسم (The Governor) عن كتابة الفيزياء باللغة الانجليزية . ومما يبدو مفارقاً - اليوم - استشهاد اليوت بكتابة علماء العرب (كابن سينا) بالعربية. وهذا يستولد سؤالاً مهماً : هل كان العرب يترجمون فقط علوم اليونان والرومان (علوم الأوائل كما يسمونها) ؟ وما هو - على التحقيق - دور الثقافة العربية في النهضة الأوربية، هل كان مجرد ترجمة ونقل فقط لعلوم الأوائل؟؟
? هذا غير صحيح، وثمة الآن شواهد عدة تؤكد أن الترجمة في العصر العباسي كانت خلاقة و تقع ضمن مشروع بحثي ضخم وعريض . فقد كان «بيت الحكمة» الذي أنشأه المامون أعظم وأضخم مركز بحث في زمانه (راجع ورقة أوكنر وروبرتسون عن تاريخ الرياضيات العربية 1999) . وربما تميزت على أكاديمية أفلاطون الشهيرة (387 ق.م - 529 م ) في بعض الأشياء كالترجمة . وقد قيض الله لنهضات الشعوب , غالباً , حكاماً ذوي ميول وخصائص ذاتية معينة . فأليزابيث الأولى الرمز السياسي لعصر النهضة الانجليزية (عصر شكسبير) شجعت العلوم وقد كانت هي نفسها شاعرة وكان عصرها يعرف بعصر المغامرة وروح الاكتشاف والمرونة الفكرية.
? اللغة مدخل لا فكاك منه في أي اشتغال حضاري وقد كانت عملية الترجمة نفسها راقية ومنتجة. مما أفضي بدوره، إلى إنتاج معرفي جيد ورائع بمقاييس تلك الأزمان. ومن ذلك الجبر- الذي يكفي اسمه وحده للدلالة على أصله العربي- ونظرية الأرقام(Algebra and Number Theory) والخوارزميات والقانون في الطب (ابن سينا) . ونتجت كذلك إسهامات بن الهيثم وآخرين كثر في مختلف أضرب المعرفة وزواياها. وفي الأدب وعلوم اللغة أثمرت ترجمة كتب عظيمة من وزن ( فن الشعر (Poetics ) لأرسطو تفاعلاً ساهم في نهضة أدبية نقدية كبيرة ( الجاحظ وتلاميذه، وابن قتيبة، والجمحي، وبن المعتز (أصحاب الطبقات)، وبن طباطبا، وحازم القرطاجني).
? في ظل تنامي الإحساس في محيطنا المحلي والعالمي المعولم لمحورية مفهوم حوار الحضارات (تبنت السعودية مثلاً الدعوة لمؤتمر عريض ومهم عن حوار الأديان، فضلاً عن قيامها بعقد العديد من مؤتمرات الحوار الوطني و المذهبي)، ما أحوجنا لاستلهام تجربة عظيمة ورائعة كتجربة «بيت الحكمة». وما أحوجنا لدرس واستلهام تجربة رجال أخلصوا للبحث العلمي من أمثال حنيان بن اسحق (أشهر مترجمي العصر العباسي) والكندي . فحال الترجمة اليوم بائس كماً ونوعاً (في تقرير التنمية البشرية العربية 2004 أسبانيا وحدها تترجم سنوياً أضعاف ما يترجمه العرب مجتمعين ). وهي غالباً ضعيفة ومضطربة، ولا تقع ضمن مشاريع بحث عريضة كتلك التي كانت «لبيت الحكمة» . وهي فوق هذا ودونه, فوضوية ومكرورة ولا تكترث لقوانين الملكية الفكرية (طبعاً هذا على باب العموم وتوجد استثناءات قليلة مهمة).
? بيت الحكمة، تجربة علمية رائدة في تاريخ الترجمة والبحث العلمي العالمي. وهي أيضاً، نموذج رائع لحوار الحضارات.