فتنة الصورة السينمائية

تفجر عوالم السينما رغبات عميقة ودفينة في النفس الإنسانية، منها رغبة المشاهدة والتعرف على الحياة الحميمية بتفاصيلها لدى الآخرين. وهي رغبة موجودة في الحياة اليومية، يسعى الأفراد لإشباعها بشكل دائم. وما أحاديث الثرثرة التي يمارسها الرجال والنساء على حد سواء عند اجتماعهم في لقاءات الأصدقاء إلا انعكاس للحاجات الدفينة في معرفة تفاصيل حياة الناس من حولهم، وخاصة الحميمية والمخفية منها. إلا إن السينما لا تؤمن للمشاهد شعور مراقبة الحياة الحميمية للآخرين فقط، بل تصل إلى حد السماح له بإمكانية التلصص عليهم. ولهذا يُقدم المشاهدين على متابعة الأفلام التي تحوي مقاطع حميمية من الحياة العاطفية والجنسية، والتي يُعد وجودها أحد معايير النجاح التجاري. ويحدث هذا بشكل خاص مع الأفلام الجنسية "الإيروتيك" التي تقدم تفاصيل من الحياة الجنسية الحميمية ضمن رؤية فنية، تخفي الجنس بشكله المباشر لتوحي بالجاذبية والإغراء. وعلى العكس من ذلك تتحول الأفلام الجنسية "البورنو" إلى نوع من تحقق أقصى درجات الرغبات بالتلصص والرغبة برؤية كل شيء بدلاً من إثارة الرغبة والحلم. وتعني رغبة مشاهدة الحياة الجنسية في السينما الرغبة بمعرفة كل شيء عنها، ليصبح البصري والمرئي أساس المعرفة. ولذلك يتم استغلال مثل هذه الأفلام تجارياً في إطار الحياة الاستهلاكية وتغييب العقل والابتعادة بالفرد عن مشاكل الحياة اليومية.
ولا تنجح عادةً المعايير الدينية والأخلاقية والسياسية ومقصات الرقابة في منع الأفراد بسهولة من مشاهدة الأفلام الجنسية أو الإباحية، إذ إن رغبة المراقبة موجودة داخل كل فرد وإن بدرجات مختلفة. وإذا حاولت المبادئ الدينية والأخلاقية تهذيبها، والروادع والزواجر منعها، فإنها تبقى موجودة. وهي وإن اختلفت من على السطح تبقى كامنة في إنتظار وجود متنفس لها بأشكال مختلفة. وينقسم الرأي حول ظاهرة مشاهدة أفلام العنف والجنس، فالبعض يرى أنها تزيد من عدوانية وشذوذ الأفراد لتنتقل ممارستها إلى الحياة اليومية، في حين يرى البعض الآخر أنها تفرغهم من طاقاتهم المكبوتة وتجعلهم طبيعيين وسويين.
تحدث عملية التماهي مع شخصيات الفيلم السينمائي على المستوى النفسي، ولكن للسينما دورها أيضاً على المستوى الاجتماعي في خلق نوع من العادات والتقاليد المرتبطة بالذهاب إلى صالاتها. فأجيال القرن العشرين وحتى السبعينات منه هي أجيال السينما بامتياز، وذلك قبل السيطرة الكاسحة للتلفزيون بمحطاته الفضائية. فمظهر الشوارع التي تضم صالات العرض السينمائي في المدن والبلدات يتبدل ويتغير بالارتباط مع مواعيد عروض الحفلات. فالشوارع فارغة إلا من العابرين أثناء وقت العرض، ليتغير المشهد عند انتهائه بخروج حشد من الناس منها، فيسببون الازدحام وعرقلة السير. يحدث هذا مع كل عرض، لكن تزداد شدته مساءً وأيام العطل، وخاصةً مع عرض الأفلام الجماهيرية. وفي كل مرة تعلو أصوات المراهقين في الشارع بالصياح والقهقهة، ويقومون بالنقاش حول الفيلم بأصوات عالية وتقليد حركات شخصياته.
أما في المدن التي تتجمع عادةً في مراكزها عدة صالات عرض، فإن التنقل بينها يصبح نزهةً أو تسكعاً بهدف تمضية الوقت، حيث يتم مشاهدة الصور والإعلانات المعروضة على واجهاتها، وخاصةً عندما تقوم هذه الصالات بعرض صور الإثارة للفيلم المعروض والأفلام القادمة. يحدث هذا التجوال أمام قاعات السينما كما يحدث بالطريقة نفسها في التجوال أمام واجهات مكتبات البيع، وعلى الأغلب على شكل تسكع دون هدف بالشراء.
وفي الأيام التي لم يكن يحظى بشعبيته العالية بسبب اقتصاره على التقاط محطة واحدة أو اثنتين رسميتين، كان الذهاب إلى السينما نوعاً من النزهة العائلية، أو لقاء رفقة مع الأصدقاء، وذلك بكل طقوس الأناقة في اللباس وشراء المأكولات ومتطلبات الاستمتاع بأمسية مميزة. كما إن قاعة السينما تُعد من أفضل أماكن التسلية وقضاء الوقت أيام الشتاء حيث البرد القارس والأمطار، فهي المكان الدافئ الذي يقدم المتعة دون أسعار عالية.
كان الذهاب المنتظم إلى السينما في القرن الماضي جزءاً أساسياً من ثقافة الطبقة الوسطى في المجتمع، كما كان من السبل الرخيصة أمام الطبقة الفقيرة لقضاء أوقات المتعة لديها. إلا أنه كان يترافق مع الطبقة الوسطى بتقاليد معينة، مثل متابعة الأفلام الجديدة وحضور المهرجانات والندوات السينمائية وشراء الكتب والمجلات المتخصصة بها. وكانت هذه التقاليد مرتبطة بممارسات أوسع تتناول قراءة الكتب وارتياد المسارح وزيارة المتاحف وحضور الندوات الفكرية والأمسيات الموسيقية.
وقد تم استغلال السينما في الصراعات الإيديولوجية، ونشر رؤى وأفكار وأنماط حياة محددة. فحتى السبعينات من القرن الماضي كان هناك ما يسمى بالسينما الثورية وسينما العالم الثالث وسينما أمريكا اللاتينية على سبيل المثال. إلا أن تأثير السينما الأكبر كان الإسهام في نشر أنماط حياة إستهلاكية محددة كان يروج لها نجوم السينما، بلباسهم أو أحاديثهم أو تصرفاتهم. وما حدث في النهاية هو سيطرة النموذج الأمريكي- وبالأحرى الفيلم الأمريكي- على أسواق السينما في العالم كلها ضمن مفهوم أمركة العالم، وسيطرت معها أنماط الحياة الاستهلاكية وجوانب العنف والجنس لما يُسمى بأفلام الحركة. وبالمقابل تراجعت سينمات العالم بما فيها السينمات الأوروبية أمام اكتساح الأفلام الأمريكية، وانحسرت معها رؤى ثقافات متعددة ومتنوعة كانت تغني السينما بموضوعاتها وتجاربها الإنسانية.
ومنذ نهاية القرن العشرين كان لايزال للسينما روادها القلائل، فالبعض يرتاد صالاتها بانتظام في فترات محددة من حياته، والبعض الآخر يذهب إليها دون انتظام، أو بالصدفة تحت تأثير الدعاية الضخمة التي تكرس لبعض الأفلام التجارية. وارتبط فقدان السينما قسماً كبيراً من روادها في المجتمعات التابعة- من بينها العربية- بانهيار الطبقات الوسطى في المجتمع، وانحسار تقاليدها الثقافية من الحياة اليومية لأفرادها. وهو ما حدث بالطريقة نفسها مع انخفاض عدد قراء الكتب وإختفاء ثقافة التعامل بها، والتي تميزت بها هذه الطبقات. وكان إفقار الطبقات الوسطى في هذه المجتمعات يعني عدم قدرتها المادية على المتابعة الثقافية، واستنزاف وقتها في البحث الدائم عن موارد مالية جديدة من أجل استمرارية حياتها، مما كان يضطرها إلى ممارسة أعمال طويلة أو عملين معاً، فلا يبقى لها عندئذ الوقت لممارسة أنماط حياتها السابقة.
وإضافةً إلى انهيارات الطبقات الوسطى في المجتمع فإن ما أدى إلى الانحسار الكبير لارتياد صالات العرض هو طبيعة الحياة الحضرية في المدينة، والتي يشكل سكانها معظم رواد السينما. وتتميز الحياة المعاصرة في المدينة- بأوجهها الصناعية والتجارية والخدماتية- بالتعقد والاغتراب، وهو ما ينعكس على طبيعة ساكنيها من فقدان التواصل الاجتماعي الحميم، والإحساس الدائم بالضغوط النفسية، ومحاولات نسيان الواقع أو الهروب منه. ومع أن عالم السينما يستطيع أن يحقق أحد أشكال أحلام اليقظة والهروب من الواقع بالتماهي مع محمولات الصورة السينمائية وجمالياتها، إلا أن ضغوطات الحياة وتعقيداتها لم تعد تتناسب مع الحضور المنتظم لها بكل الطقوس التي تتطلبها. ظهر هذا بوضوح مع بداية القرن الحادي والعشرين، من خلال غياب الاستعداد المادي والنفسي للأفراد لقبول الانتظام العقلاني في حياتهم، وتغير مفاهيم أوقات الفراغ لديهم أو غيابها، والابتعاد عن الحياة الحميمية الجماعية، وتنامي النزعة الفردية والرغبة بمزيد من الانعزال في المنزل، وقد جعل هذا السينما بعيدة عن أنماط الحياة الجديدة المليئة بالتعقيد والتوتر والضغوط النفسية، ولذلك كان أحد الحلول للإنسجام مع هذا الواقع الجديد هو التوجه إلى التلفزيون والانغماس فيه.
المصدر: كتاب سحر الكتاب وفتنة الصورة

عاشت الكلمات