عن صحيفة الشرق الاوسط اللندنية / الثلاثاء 24 أبريل 2007
استوقفتني الإشارة التالية والتي وردت في كتاب «ايران بين التاج والعمامة» اصدار دار الحرية (جمهورية مصر العربية) ص447 وتتعلق بتصحيح موقف الثورة الايرانية من المؤسسة العسكرية بعد ان كانت تعرضت منذ الايام الاولى للثورة الى حملة تطهير لم يسبق لها مثيل هزت اركان المؤسسة بقوة وزعزعت الثقة بالنظام الجديد، أقتبسها وأنقلها حرفيا لأهميتها: «.... ومن هنا بدأت بقوة، حملة اعلامية حكومية واسعة النطاق، تستهدف استعادة ثقة المواطنين في الجيش، كما تستهدف ترضية ضباطه ورفع معنوياتهم، وتشجيع الهاربين منهم للعودة الى ثكناتهم بعد ان بلغت نسبة هؤلاء الهاربين نحو 50% من عدد افراد قوات الجيش، وتعززت الحملة بعفو عام اصدره الخميني عن العسكريين بصفة عامة، سواء في الجيش ام في الدرك الوطني، أم في الشرطة، كما افرج عن المسجونين من ضباط الجيش وخاصة في سلاح الطيران...».
هذا الموقف لم يكن مفاجئا لي لأنه ببساطة ينسجم وطبيعة الأشياء، والمغزى لا يقتصر في التعبير عن موقف عقلاني يتطلبه الصالح الوطني بل في الاشارة الى النظام الذي تبنى هذا الموقف وهو في عنفوان غضبه وتمرده، بل وبراءته من كل مؤسسة او تقليد او سياسة او حتى شخصيات ارتبطت بشكل او بآخر بنظام الشاه محمد رضا بهلوي، لقد كانت ثورة روح الله الخميني عام 1979 ثورة حقيقية بكل ما تنطوي عليه الكلمة من معنى لأنها ببساطة أقامت نظاما سياسيا واقتصاديا واجتماعيا أين هو مما كان سائدا في زمن الشاه!! لقد غيرت الثورة وجه ايران في الداخل والخارج، واستدعى ذلك بالطبع تقويضا منهجيا لركائز النظام السابق، وحظيت المؤسسة العسكرية ربما بالقدر الأكبر من غضب النظام الجديد حيث تم اعدام ما يزيد عن 350 جنرالا خلال يومي 9 و10 شباط 1979، وتم تسريح واحتجاز الآلاف من الضباط.. ربما كان للثورة مبرراتها في تحصين نفسها ضد احتمالات عودة العسكر للسلطة بهدف احياء النظام القديم وهو عن الذاكرة السياسية ليس ببعيد ومشهد سقوط مصدق بيد العسكر عام 1953 وعودة الشاه للحكم تعزز هذه المخاوف، ولكن الغلو في حملة التطهير وامتداده ليشمل جنرالات وضباطا كان جل جريرتهم ولاؤهم المخلص للمؤسسة العسكرية وتقاليدها وليس بالضرورة لنظام الشاه هذا الغلو أحدث شرخا كبيرا بين النظام الجديد والمؤسسة العسكرية ورتب اثارا كارثية ومدمرة على الصالح الوطني كان من المتوقع ان تدفع ثمنها المؤسسة العسكرية وإيران لفترة طويلة لو لم يجر تداركها في اللحظة الاخيرة حيث امكن مراجعة العديد من القرارات ذات العلاقة وأعيد الاعتبار للمؤسسة العسكرية وتقاليدها الراسخة بإخلاء سبيل الآلاف من الضباط وإغلاق ملفات الدعاوى على خلفية شبهات بارتكابهم جرائم في زمن الشاه، بل ودعوة المتقاعدين منهم للالتحاق مجددا بالخدمة، ومع ذلك فقد لوحظ ان افراد الجيش كانوا مازالوا يفتقدون الثقة في النظام الحالي معتبرين بما حدث لزملائهم حيث ظهرت حالة من التمرد وعدم الانضباط والعصيان بين الضباط والجنود الذين رفضوا في كثير من الاحيان تنفيذ الاوامر بالتعامل مع متمردين في مناطق مختلفة من البلاد خوفا من ان يحاكموا كما حوكم زملاؤهم بتهمة قتل افراد الشعب... الامر الذي دفع قائد الثورة الامام الخميني الى تهديد قيادة الجيش في اكثر من مناسبة.
هل نواجه نحن مثل هذا الموقف، وهل ينبغي ان نرتكب نحن نفس الاخطاء، وفي ظل وضع مضطرب غير مستقر كما هو عليه العراق اليوم، قد يصبح استدراك الامر ومعالجة الخطأ امرا مستحيلا وبالتالي يقع المحظور، حيث تنفصل المؤسسة العسكرية عن المؤسسة السياسية بدل ان يتحقق التكامل الطبيعي بين المؤسستين.
هذه المقدمة ربما كانت ضرورية للاشارة الى الموضوع المركزي الذي سأتناوله في هذه المقالة ويعنى بالإجابة عن السؤال الهام وهو:
«الى اي مدى يمكن اعتبار المؤسسة العسكرية شريكة في قرارات سياسية مثيرة لجدل قانوني باعتبارها الجهة المنفذة وتتحمل بناء على ذلك قسطها من المسؤولية القانونية بمعنى عدم اعفائها من المساءلة القانونية شأنها في ذلك شأن القيادة السياسية؟».
المعروف عالميا ان القوات المسلحة هي اداة من ادوات السياسة، والحرب شكل من اشكال السياسة بطرق أخرى، وعلى هذا الاساس فان قرار استخدام القوات المسلحة لهذا الغرض او ذاك هو قرار سياسي في المقام الاول، وما على المؤسسة العسكرية سوى الاذعان والطاعة، اي التنفيذ ليس الا، ومنذ اليوم الاول الذي يلتحق فيه الفرد بالمؤسسة العسكرية جنديا في القوات المسلحة وحتى يغادرها لأي سبب كان فان المؤسسة العسكرية تغرس في نفسه وبلا هوادة وعلى مدى اليوم والساعة نزعة لا مجال للمساومة عليها وهي الطاعة العمياء لأوامر المافوق. هذا التأهيل النفسي ضروري للغاية، ومن دونه تتلاشى اهمية القرار السياسي عندما يصبح بمقدور المؤسسة العسكرية مناقشته، بل الاعتراض عليه، او ربما رفضه على خلفية احتمال تباين الاجتهادات والآراء والمواقف بينها وبين القادة السياسيين، وعندها تتعرض المصلحة الوطنية لخطر جسيم.
الجندي في القوات المسلحة لا يحمل في جعبته دليلا لما هو مسموح به وما هو غير مسموح به قانونيا او اخلاقيا او سياسيا، وإنما يحمل سياقات صارمة في كيفية تنفيذ الاوامر الصادرة اليه ميدانيا، ويحاسب بناء على تلك السياقات والأعراف والتقاليد العسكرية ليس الا، ان تخاذله في تنفيذ الاوامر الصادرة اليه قد يكلفه حياته، وبالتالي فان خياراته محدودة.
هذا لا يعني القول بأن المؤسسة العسكرية تخرج مجاميع من البشر لا احساس لهم ولا شعور وأنهم يتصرفون كما هو الرجل الآلي، بالتأكيد لا، ان معاني الشرف والفروسية والنبل والشهامة وحب الوطن هي خصال ملازمة للشخصية العسكرية ويجري غرسها منذ الايام الاولى التي يلتحق فيها الجندي بالمؤسسة العسكرية.
يبدو ان العراق يمر بتجربة مشابهة الى حد ما لمرحلة ما بعد سقوط انظمة دكتاتورية مماثلة جمهورية كانت ام ملكية، اذ يمثل امام المحكمة الجنائية المركزية العليا في قفص الاتهام كوكبة من ضباط الجيش العراقي السابق المشهود لهم بالكفاءة والمهنية العالية متهمين بتورطهم في جرائم ارتكبت في عمليات الانفال عام 1988، ولا بد من الاشارة هنا الى تعاطفي مع محنة شعبنا الكردي للظلم والقهر الذي تعرض له خلال حقبة النظام السابق وما قبله وشجبي وإدانتي لذلك ورغبتي في محاكمة من شارك في صناعة القرار السياسي في هذه العمليات واخص بالذكر القرار الذي رخص بقصف حلبجة بالأسلحة الكيمياوية، ايا كانت الذرائع والأسباب والدوافع.
ويبقى الموضوع المركزي هو في الفصل بين من اصدر القرار السياسي الواجب التنفيذ وبين المؤسسة العسكرية التي لا خيار امامها سوى الطاعة والإذعان. العسكر لا ينبغي ان يحاسبوا على قرار سياسي انطوى على جرائم ضد الانسانية او غيرها لان ذلك يعني تسييس المؤسسة العسكرية، بمعنى تخليها عن تقاليدها وأعرافها، بمعنى الايحاء للمؤسسة العسكرية بأن من حقها مستقبلا مراجعة القرار السياسي الصادر اليها تقلبه وتنظر فيه مليا قبل تنفيذه بهدف تحصين نفسها من مساءلة قانونية متوقعة اذا ما ثبت فيما بعد ان ذلك القرار السياسي انطوى على خروقات يحاسب عليها القانون.
المؤسسة العسكرية يمكن ان تحاسب اذا ما ثبت ان القادة العسكريين تجاوزوا الاوامر الصادرة اليهم دون مسوغ او مبرر ميداني او حاجة فعلية، وان هذا التجاوز رتب وضعا جديدا او ألحق اثارا ضارة... مما اعتبر انتهاكا للقانون. عدا ذلك، ينبغي النظر الى المؤسسة العسكرية وهي قد نفذت اوامر صادرة اليها دون تردد بأنها دليل صحة يؤكد رصانة المؤسسة العسكرية ورقيها. والعسكري عادة ما يكرم في ضوء ما يعكسه من التزام صارم بالتقاليد العسكرية وسياقاتها، بدل ان يحاسب بسببها. في السادس من اغسطس (آب) 1945 قام طيار القوة الجوية الامريكية بول ورفيلد تبيتس بإسقاط اول قنبلة ذرية (لتل بوي ـ الولد الصغير) على مدينة هيروشيما اليابانية ادت الى مقتل 140000 شخص ثم الحقها بقصف ناكازاكي في 9 آب بقنبلة أخرى اطلق عليها (فات مان ـ الرجل البدين) مما ادى الى مقتل 74000 شخص تقريبا، علما ان معظم الضحايا من المدنيين ناهيك من التدمير الكامل الذي لحق بالمدينتين والآثار التدميرية اللاحقة في الولادات والبيئة، مما اعتبر عالميا وعلى نطاق واسع بأنه عمل لاأخلاقي. ومع ذلك فان الطيار المذكور بقي في الخدمة لفترة ما يقارب 30 سنة حصل خلالها على اعلى الاوسمة والنياشين قاربت الـ11 حيث لم يحصل على مثلها اي طيار آخر في القوة الجوية الامريكية!!
وعندما يتذكر العالم هذه الحادثة بمرارة فانه لا ينحى باللائمة على الطيار الذي نفذ الامر بل على من اصدر الامر وهو الرئيس الامريكي هاري ترومان لا غير.
ينبغي لنا ان ندرس التاريخ لاستلهام العبر والدروس. ولا نكرر اخطاءً قد يدفع الوطن ثمنها غاليا مستقبلا، لابد من بناء مؤسسة عسكرية وطنية مهنية، تحترم وتلتزم بتقاليد المهنة، وإذا كانت الرغبة حقيقية في هذا المجال فانه لا بد من فصل بين قرار الساسة (وملاحقة من كان وراءه متى خرق القانون) من جهة وطاعة العسكر (وإعفاء القادة المتورطين بذلك) من جهة اخرى.
المطلوب بصراحة ان يعاد النظر بالضباط المتهمين بارتكاب جرائم في عمليات الانفال وغيرها مستقبلا وإخلاء سبيلهم ان لم يكونوا مطلوبين لدعاوى اخرى.
اتوقع ان ينبري البعض في التأويل وتشويه المقاصد وإعادة عرض فكرتي بطرق ملتوية، وهذا لم يعوقني والحمد لله في قول كلمة حق لا اريد منها سوى وجه الله ورضوانه فحسب. ولكني في نفس الوقت ادعو ذوي المروءة ان يرفعوا اصواتهم، ان يعضدوا هذا الطلب، فالمسؤولية مشتركة ومن يشعر بضرورة امتلاك العراق لقوات مسلحة وطنية محصنة بتقاليد راسخة عليه ان لا يتأخر وليدل بدلوه الان ليقول كلمة الحق دون تردد او وجل، وقول الحق فريضة واجبة والساكت عنها شيطان اخرس.
ما يهمني في نهاية المطاف، هو العراق في ان تكون له مؤسسة عسكرية مرموقة مستقلة غير مسيسة، تقاليدها عميقة الجذور، وينبغي ان ينشط الجميع في هذا الاتجاه خصوصا في هذه المرحلة التي تتشكل فيها قواتنا المسلحة من جديد. ان اعفاء الضباط المتهمين في جرائم الانفال وغيرها من ملفات ينتظرها القضاء العراقي وعدم تحميلهم وزر القرار السياسي سيكون عونا في تحقيق هذا الهدف النبيل، الم يعف الاخوة الكرد عن الكرد الفرسان الذين قاتلوهم واصطفوا مع النظام ضد اخوانهم وكانوا ربما اشد عليهم من الجيش العراقي نفسه وهكذا ضربوا المثل الاعلى في العفو والتسامح، المرجو منهم ان يتخذوا قرارا صعبا آخر في هذا الاطار. ان غلق ملفات هؤلاء الضباط من شأنه ان يدفع مشروع المصالحة الى امام وهو امر مرغوب فيه.
(قال يا قوم أرأيتم ان كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا وما اريد ان اخالفكم الى ما انهاكم عنه ان اريد الا الاصلاح ما استطعت وما توفيقي الا بالله عليه توكلت واليه انيب) (هود 88)
نائب رئيس جمهورية العراق